قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إيوْجِنيو مونتالِه Eugenio Montale (1896-1981)
اختارها وترجمها وقدَّم لها: أمارجي
تقديم
لا غُلواءَ إنْ قلنا: القصيدةُ، هنا، تنكيلٌ بالزَّمن، نهشٌ بالمغاليق-،
(نصٌّ مخلبٌ)
(نصٌّ نصْلٌ)
ههنا، الزَّمنُ ثالثٌ، موَّارٌ بِشكِّه ولا يستوثِقُ إلا الذي فيه؛ زمنٌ مختمِرٌ في صَدَفةِ الكمَدِ الوجوديِّ، يتفلَّعُ ويعلو في خمائره مثل شجرةٍ تمتاحُ ماءَ نفسِها، ثمَّ تحترقُ وتهوي بغتةً في رمادِ نفسِها؛ زمنٌ شغلُه الفتلُ والتَّحويلُ والتَّمزيق، تهييجُ "هلاساتٍ تَورِياتيَّة" تحت الجلالِ الهُدهُديِّ للنِّسيان، حين اللازمنيُّ تناصٌّ مع الزَّمنيِّ، تحريشٌ به. الهدهدُ نفسُه رمزٌ لصنيعِ مونتالِه الشِّعريِّ، إنَّه بهلوانُ الزَّمنيَّة المونتاليَّة الذي يجمِّدُ ويحرِّكُ في آنٍ معاً، مُقنبَرَاً بعَوْفِه الكونيِّ. ولا يُشْكِلَنْ علينا هذا اللَّيَاحُ الزَّمنيُّ المبهِر، هذا العماءُ الأصلُ المستعادُ عبرَ انتفالِ اللغةِ مِن سَقطةِ المواقيت، وانتفالِ المواقيتِ مِن سَقطةِ اللغة؛ لا يَنطَلِيَنْ علينا انتحالُ العدَمِ أسرَّةَ اليقين: الزَّمنُ المشاكِلُ للَّازمنِ والمشكِلُ به هو، ببساطةٍ، الزَّمنُ المنكِّلُ، هو المعتصِرُ بهاءاتِ الأمسِ في مِهرازِ الرَّاهن. لا لبسَ، إذَّاكَ، أنَّ الزَّمنين الآخرين المنكَّل بهما، المقطَّعَين بِحَزازِ ساعاتٍ مسترخيةٍ في عزلةٍ من الأبديَّةِ والأفولِ على حدٍّ سَواء، ليسا إلا الزَّمنَ الوضعيَّ اليقينيَّ، الموصَدَ بين قبلٍ وبعد، والزَّمنَ الشِّعريَّ الغيبيَّ، المفتوحَ بين أزلٍ وأبد؛ فالزَّمنُ القيُّومُ على النَّصِّ لا تستقيم قيُّوميَّتُه إلا بجرشِ ذينك الزَّمنين في بعضهما، عَجناً لهما مِن ثَمَّ في نَتْنِ العَصر. هكذا، يبدو الزَّمن عند مونتالِه تجسيداً لرعبِ اللحظةِ الحاضرة، اللحظةِ المتورِّمة بذاكرةٍ مُدَلَّاةٍ، كسيفِ ديموقليس، على رأس الواقع، فيما الواقعُ إيَّاه يتوسَّلُ الرَّمزَ مِرفعَاً له مِن طينِ نفسِه.
* * *
(نصٌّ مخلبٌ يهرِّئُ)
(نصٌّ نصلٌ يَقْشُرُ)
لكن، ما المغاليقُ المنهَّشة، وما المغاليق المتِمَّةُ - في النَّصِّ المونتاليِّ - ثمرةَ الرؤيا؟ ذلك مأزقٌ آخر يقتضي من القارئ قفزةَ اجتناء؛ لأنَّه كما في جدليَّة الزَّمن، كذلك في جدليَّةِ الاستغلاق الشِّعريِّ، يفتح الشَّاعرُ هُوَّاتٍ أكيدة بين الحضورات ووعيها، يبتئرُ الحضوراتِ بفأسِ الغيب، مُفلِتاً الصُّورَ تتوهَّسُ الغيابات. بهذا المعنى، يتشكَّلُ المؤدَّى النِّهائيُّ للنَّصِّ أوَّلاً مِن دَهْمِ إبهاماتٍ بعينِها،- الإبهاماتِ الهِيْمِ المنفصلة المرتَجَة، ببعدِها البرناسيِّ المصْمَتِ على نفسِه-، والتَّفجيرِ فيها؛ وثانياً مِن تدسيمِ إبهاماتٍ رؤيويَّةٍ، وإيثاقها بالواقع المرمَّز، ببعدِها الإلاحيِّ المفتوح على الممكِن الإنسانيِّ. إنَّه فضاءٌ شعريٌّ مغاليقه إيماءٌ إلى مفاتيحه، لا طمسٌ لها؛ فضاءُ ابتناءٍ على التَّخريب، ورقشٍ على التَّمْحية، ووصْلٍ على المصارَمة. وفي هذا الفضاء ليس همُّ الشَّاعر إعلاءَ المستغلَقِ وتوطيدَه، بل حملَه كما هو وتقريبَه ومناجاته. وإذا كان كلُّ شاعرٍ سارقَ نارٍ، أمكنَ القولُ إنَّ نارَ مونتالِه هي هذا الزَّيغ الازدواجيُّ: زَيغُ التَّعمية نحوَ برَّانيَّةٍ حسِّيَّة، وزَيغُ الحسِّيِّ نحوَ إبطانٍ اذِّكاري.
* * *
تلك مُحاجَّةٌ تخاشِنُ النَّصَّ في أناه. تَبْهَتُ الأنا في السُّؤالِ عن أناها؛ تَخبُلُها بالمرايا. المرآة انتقامُ الآخَر من نَرجِسَةِ الشِّعر؛ تَشَفِّي المنقصةِ من المثال. كلُّ مرآةٍ أمام نصٍّ هي، قطعاً، فِعلُ خلخلةٍ وهتكٍ، افتضاحٌ للآخرِ في الأنا، وللأنا في الآخَر. التَّفتُّحُ أو التَّشظِّي نُهْيَة ذلك؛ فإمَّا المرآة وإمَّا النَّصُّ. هنا، ثمَّة تراجعٌ في الشِّمراخِ الأنَويِّ، أو تقلقلٌ له في تربةِ اللانهائيِّ: باكْتِناتٍ خجول. العثكالُ الهائلُ، عثكالُ الأنا الشِّعريَّة، أنا الفتوحاتِ والنِّهاياتِ، العزلاتِ والمجابهات، يوهمنا أنَّه متمَّمُ العُقر حيالَ مادَّةِ إخصابِ الكونيِّ الذي تزعمه الأنا بَعلاً أبديَّاً لها، ولكن ما يفعلُه بحقٍّ هو أنَّه يطرحُ، إفاضةً، بُسُرَ الكلِّيَّات عِبرَ أسديةِ المجزوءات، استيلاداً بعدئذٍ للجوهريِّ من الزَّائل، والثَّابتِ من الآنيِّ، وتثبيتاً للمولِّدات والمتولِّدات في بعضهما. لكأنَّ الأقنومَ المتعبِّدَ لذاتِه، أقنومَ الأنا، لا يكتملُ إلَّا بلُحمتِه بالآخَر وانصهارِه فيه وانتصارِه له. الأنا المُحيقةُ بالآخر وبالكون هي، في هذا الشِّعر، مَحِيقةٌ بهما، ولا تتنفَّسُ إلا برئاتِهما. رئاتٌ كلماتٌ تتدبَّرُ انصبابَها، دون زلَلٍ، في هذا الزَّيغ، واستدادَها في هذا الالتواء.
* * *
(نصٌّ مخلبٌ) يهرِّئ المطلَق؛
(نصٌّ نصلٌ) يقشرُ الأبديَّةَ عن حجرِ اللحظة؛
يجتعفُ عروقَه مثلَ حجَّارٍ،
ثمَّ، مثلَ مثَّالٍ ينحتُه.
النُّصوص:
أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطةِ المُتَّهَم
أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطة الذي تقوَّلَ عليه
الشُّعراء، يا مَن تدوِّرُ عُرفَكَ
فوق العمود الهوائيِّ لقنِّ الدَّجاج،
وكمثلِ ديكٍ اصطناعيٍّ تدورُ مع الرِّياح؛
رسولٌ ربيعيٌّ أنتَ، يا هُدهُد، كأنَّما
الزَّمن يتجمَّدُ عبرَك،
وشباطُ لا يموتُ [بحضورِك]،
كأنَّ كلَّ شيءٍ في الخارجِ يتحرَّكُ
وفقاً لحركةِ رأسِك،
أيُّها المجنَّحُ الغريب، وأنتَ تتجاهلُه.
الشُّرفة
مُعابثةً بسيطةً بدا لي
تحوُّلُ الفضاءِ المفتوحِ [كلِّيَّاً] عليَّ
إلى عدم، ونارِكِ الأكيدة
إلى ضجرٍ غامضٍ مُزعزَع.
بذلك الخواء وحَّدْتُ الآنَ
كلَّ رغبةٍ مِن رغباتي البطيئة؛
فوقَ العدمِ الشَّاقِّ ينبثق
قلقُ البقاءِ حيَّاً في انتظارِك.
حياةٌ تهَبُ وميضاً
هي وحدُها الحياة التي تُبصِرين.
نحوَها تخرُجين
مِن هذه النَّافذة التي لا تضيء.
مجدُ ظهيرةٍ مسترخية
فلتتمجَّد هذه الظَّهيرة المسترخية
حين الأشجارُ لا تصنعُ ظلَّاً،
وهيئاتٌ صُفْرُ مُحمرَّة تتكشَّفُ حولي
أكثر فأكثر، عبرَ ضياءٍ مُفرِطٍ.
الشَّمسُ، عالياً-، ومجرىً نَشِفٌ.
نهاري لم ينقضِ بعد:
السَّاعة الأبهى تقبعُ خلف الجدار
الموصَدِ على أفولٍ مُمتقِع.
القيظُ في الأنحاء؛ طائرُ رفرافٍ
يحومُ فوق رُفاتِ حياةٍ.
فيما وراءَ الكَرْبِ ثمَّةَ المطر،
لكنَّ فرحاً أكثر اكتمالاً يترصَّد.
أرسِنْيو1
هي ذي زوبعاتٌ يرفعْنَ الغبارَ،
في دُوَّاماتٍ، على الأسقُف، والمفازاتِ
المقفِرة، حيث الجيادُ المقلْنَسَة
تتشمَّمُ الأرضَ، واقفةً حيالَ البلَّورِ،
بلَّورِ الخاناتِ الثُّلاجيِّ البرَّاق؛
فيما تتحدَّرُ أنتَ على الدَّربِ، مواجهاً البحرَ،
في هذا النَّهارِ المنذِرِ
بالمطرِ حيناً والمتَّقدِ2 حيناً، كترديدِ نواقيرٍ
يريدُ تشويشَ العقدةِ الملتحمةِ
لساعاتٍ
كلُّ واحدةٍ منها طِباقُ الأخرى.
ها إلماعةٌ مِن لَدُنْ مدارٍ آخر: اتبعها.
اهبطْ نحوَ الأفق المعتلَى
مِن قِبلِ شاهقةِ ماءٍ3 رصاصيَّةٍ عاليةٍ على اللُّجَج
وأعتى منها تدويماً: هالةٌ أجاجٌ ملَولَبةٌ،
ينفخها العنصرُ الثَّائرُ4
نحوَ السَّحاب؛ دع عبورَكَ
يخشخش الحصباءَ مِن تحته وتعثَّرْ
بتشبُّكِ الطَّحالب: علَّ تلك البرهة،
المشتهاةِ مِن زمنٍ بعيدٍ، تُنجِّيكَ
مِن اختتامِ طَوافِك، مِن حلقاتِ هذي
السِّلسلة، مِن ترحُّلٍ بلا حراكٍ،
آهِ أرْسِنيو، يا هذيان الثُّبوت
الجليَّ تمامَ الجلاء...
أصغِ بين النَّخل إلى رشقاتِ الكمنجاتِ
الرَّاعشة، يخمدُها تدحرُجُ الرَّعدِ
مختلجاً كمثل صفيحٍ معدنيٍّ طُرِقَ
للتَّوِّ؛ عذبةٌ هي الأنواءُ عندما ينبلجُ
نجمُ الشَّعرى اليمانيَّة ببياضِه
في أفقٍ أزرق، فيبدو بعيدَ المنال إذَّاكَ
المساءُ الموشِكُ: مساءٌ إذا ما شقَّقَه البرقُ
تفرَّعَ مثلَ شجرةٍ جليلة
في قلب ضياءٍ ينقلبُ الآنَ ورديَّاً: الدَّفُّ
الغجريُّ قرْعٌ أبكمُ.
انزل سُدَفَ الظَّلام الذي يهوي
ويُحيلُ الظَّهيرةَ ليلاً طافحاً
بأجرامٍ وقَّادةٍ تتهزهزُ على الشَّاطئ،-
وفي البعيد، حيث ظلٌّ مفرَدٌ
يشغَلُ البحرَ والسَّماء معاً، تنبضُ مِن مراكب مبعثرة
سُرُجُ الأسِتيلين5- إلى أن تتقطَّرَ السَّماءُ
مرتعدةً، وينفثَ التُّرابُ الذي يرتوي أبخرتَه،
بَينا كلُّ ما حولِك يُختَضُّ فيك، والمظلَّاتُ الرَّخوةُ
تخبطُ خبطَ عشواء، وحفيفٌ هائلٌ
يسوِّي الأرضَ، والمشكاواتُ الورقُ في الأسفل
تترهَّلُ، مزمهرةً، على الطُّرقات.
هكذا، تائهاً وسطَ الأماليدِ
والحُصُرِ المتهاوية، أيُّها الأسَلُ المجرجِرُ معه
جذورَه الدَّبقة، المحالُ انتزاعُها،
ترجفُ إزاءَ الحياة وتندفعُ صوبَ
فراغٍ يتصادى بنُوَاحاتٍ
مخنوقة، يبتلعُك ثانيةً امتدادُ
موجة الماضي الذي يطويك؛ ومرَّةً أخرى
كلُّ ما يتملَّكُك، الطَّريقُ، سُدَّةُ الباب،
الأسوارُ، المرايا، يغرزُكَ من جديدٍ
في الزُّمرةِ المجمَّدة، زُمرةِ الموتى،
فإذا ما مسَّتكَ حركةٌ ما، أو وقعت بقربكَ
كلمةٌ، فتلك، يا أرسِنيو،
في السَّاعةِ التي تنحلُّ، إيماءةُ حياةٍ مخنوقةٍ
تنهضُ فيكَ، وعمَّا قليلٍ
تبدِّدُها الرِّيحُ مع رمادِ الكواكب.
التَّاريخ
التَّاريخُ لا يُفَكُّ
كما تُفَكُّ سلسلةٌ
موثَقةُ الحلقات.
في كلِّ حالٍ
ثمَّة حلقاتٌ لا تُستَوثَق.
التَّاريخُ لا يتضمَّنُ
الماقبل والمابعد،
ولا شيء فيه يتشكَّى
على نارٍ خافتة.
التَّاريخ لا يصنعُه
مَن يفكِّر فيه ولا مَن
يتجاهلُه. التَّاريخ
لا يفتح طريقاً، بل يعانِد،
وينفُرُ قليلاً قليلاً، لا يتقدَّمُ
ولا يرتدُّ، يصيرُ سكَّةً
وجهتُها ليست
في جدولِ المواقيت.
التَّاريخ لا يبرِّرُ
ولا يُعزِّرُ،
التَّاريخ ليس ذاتيَّاً
لأنَّه [أصلاً] خارج الأشياء.
التَّاريخ لا يمنحُ ملاطفاتٍ ولا ضرباتِ مِقرَعة.
وليس التَّاريخ الملقِّنَ
لأيِّ شيءٍ يتَّصلُ بنا. فَهمُ التَّاريخ لا ينفعُ
في جعله أكثر صدقاً وأكثر عدلاً.
التَّاريخ، مِن ثَمَّ، ليس
المحراثَ المخرِّبَ كما يزعمون.
إنَّه يترك وراءَه أنفاقاً ومغاورَ وحُفَرَاً
وكمائن؛ فيها منجىً لحياةٍ ما.
التَّاريخ رقيق الحاشيةِ كذلك: لا يدمِّرُ
إلا بقدرِ ما يستطيع: لو أنَّه غالى،
لكانَ أفضل، ولكنَّ التَّاريخ تُعوِزُه الأنباء،
وهو لا يُكملُ انتقاماتِه أبداً.
التَّاريخ يحُكُّ القاع
كشبكةِ صيدٍ مهترئة،
تتملَّصُ منها سمكةٌ أو أكثر.
أحياناً يلامسُ الغشاءَ البلازميِّ
لإحدى النَّاجيات فلا تبدو مغتبطةً بذلك.
تجهلُ أنَّها صارت خارجاً، الكلُّ يجهل.
الأخريات، داخلَ الجِراب، يحسبن
أنَّهنَّ أكثر حرِّيَّةً منها.
الليمون
أصغِ إليَّ، الشُّعراءُ المتوَّجون بالغار
يتنقَّلون فقط بين النَّباتات ذاتِ الأسماء
النَّادرةِ التَّداول: بَقسٌ لِيغُستُرُومٌ أو أقَنْتة.
أمَّا أنا فأحبُّ الشَّوارع التي تشبه وِهاداً
مُعشَوشِبة حيث يقبضُ الصِّبية،
في مستنقعاتٍ نصف مجفَّفة، على
سمكةِ أنقليسٍ هزيلة:
الزُّنَيقاتُ التي تقفو حوافَّ المنحدَر،
تتحدَّرُ وسطَ لِمامِ القصب
وتحطُّ في الحقول، بين أشجار الليمون.
ليتَ ضوضاءَاتِ الطُّيور
تنطفئ مبلوعةً بالزُّرقة:
لَكانَ همسُ الغصونِ الرَّفيقة
أشدَّ اتِّضاحاً في هواءٍ بالكادِ يتحرَّك،
وكذا قوَّةُ هذا العبق
الذي لا يحسنُ الانسلاخَ عن الأرض،
ولَأمطرتْ في الصُّدور عذوبةً قلِقة.
هنا حيثُ تنشرحُ الشَّهوات
تخرَسُ الحربُ، كما لو بفعلِ مُعجزة،
هنا، نحن الفقراء أيضاً لنا نصيبنا من الثَّراء،
لنا عبقُ الليمون.
انظرْ، في هذه السُّكونات- التي فيها
تذعِنُ الأشياء وتبدو قريبةً
مِن نقضِ سرِّها الأخير،
نرتقبُ آنذاك
أن نكشفَ خطأ الطَّبيعة،
مُنتهى الكون، الحلقةَ التي لا تمتسِك،
خيطَ الخلاصِ الذي يضعنا أخيراً
في صُلبِ الحقيقةِ،
ها العينُ تنقِّبُ في الأنحاء،
ها العقلُ يتحرَّى يوائمُ ويفرِّقُ
في العطرِ الذي يتفشَّى
كلَّما خفتَ النَّهارُ أكثر.
إنَّها السُّكوناتُ التي عندَها
تُرى في كلِّ ظلٍّ بشريٍّ يُنائي
ألوهةٌ متكدِّرة.
ولكنَّ الوهمَ مُخِلٌّ [بمواثيقه]، والزَّمنُ يحملُنا
نحوَ مدنٍ صاخِبةٍ حيث الزُّرقةُ لا تَبِينُ
إلا مُشظَّاةً، عالياً، بين التِّيجان الحجريَّة.
المطرُ يرهقُ الأرضَ، فوقَ ذلك؛
والضَّجرُ الشِّتائيُّ يتكاثفُ فوق البيوت،
الضَّوء يشِحُّ- والنَّفْسُ تكْمَدُ.
كذا الأمرُ، عندما ذاتَ نهارٍ، عبرَ بابٍ مواربٍ
بين أشجار أحدِ الأفنية
تتجلَّى لنا صُفراتُ الليمون؛
فينحلُّ جليدُ القلب،
وفي الصَّدرِ تُمطِرُنا
بأغانيها- دَفقاً
أبواقُ العزلةِ الذَّهبيَّة.
قصيدة حُبٍّ
متأبِّطاً ذراعكِ، هبطتُ على الأقلِّ ملايين الأدراج،
ولكنَّ غيابكِ الآنَ يُعلِن الخواءَ دَرْجةً دَرجة.
كذلك، أيضاً، قصيرةً كانت رحلتُنا الطَّويلة.
رحلتي أنا لم تنتهِ بعد، ولم يعدْ لزاماً عليَّ
ضبطُ المواقيت، ولا الحجزُ المُسَبَّق،
لا التَّحايلُ، ولا احتمال مذلَّةٍ ممَّن يحسبُ
أنَّ لا حقيقة إلا ما يُرى.
هبطتُ ملايين الأدراج متأبِّطاً ذراعكِ،
ليس لأنَّ المرء بأربع عيونٍ قادرٌ على الرُّؤية أكثر.
معكِ هبطتُها لأنَّني كنتُ أعلمُ أنَّ
بؤبؤيكِ أنتِ هما وحدهما الحقيقيَّان لي ولكِ،
مهما يكن إعتامُهما.
حياتي
ها حياتي، لست أطالبُكِ بخطوطٍ
محدَّدة، ولا بوجوهٍ مُقنِعة، ولا بأملاك.
في دورانكِ المضطرب سيَّان الآنَ
مذاقُ العسلِ والإسفنط6.
القلبُ الذي كلُّ حركةٍ منه تعويلٌ
على ما قلَّ أو حقُرَ مزعزَعٌ الآنَ بالرَّجفات.
على المنوالِ نفسِه تصدحُ بين حينٍ وآخَر
في صمتِ الحقول طلقةُ بندقيَّة.
الزَّوبعة
الزَّوبعة التي تتصبَّب على أوراق الماغنوليا
القاسية، الرُّعود الآذاريَّةُ المديدة،
وحبَّاتُ البَرَدِ الدَّافقة،
(الأصوات الكريستاليَّة التي تباغتُ
عشَّكِ الليليَّ، أصواتٌ ذهبيَّة
تخمدُ على خشب الماهوغوني، على الكتبِ
المعاد تجليدُها، فيما يضطرمُ
مكعَّبُ سكَّرٍ في قوقعةِ جفنيكِ)
البرقُ الذي يبيِّضُ
الشَّجَرَ والأسوارَ ويصعقها في أبديَّةِ
هذه اللحظة – مرمرٌ تِبنٌ
وخرائب- الرَّقشُ الذي تحملينه داخلَكِ
بالإكراه، أنتِ التي تتوحَّدين بي
أقوى من الحبِّ نفسِه، أيَّتها الأختُ الغريبة-،
وبعدُ، كمَدٌ طاغٍ، سِيسْتْرُوماتٌ7، ارتعادُ
الدُّفوفِ عندَ المرْمَسِ السَّارقِ،
وطءُ رقصة الفوندانغو، وفي الأعلى
حركةٌ ما تومئ...
على مثالِكِ أنتِ عندما
التفتِّ إليَّ، وبيدٍ- جبينُكِ آنذاك
مجلوٌّ مِن غمامةِ الشَّعر-
لوَّحتِ لي، لِتَلِجي في العتمة.
عندَ البحر (أو تقريباً)8
الجُدْجُدُ الأخيرُ يصطرِخُ
على الشَّكير الأصفرِ للأوكاليبتوس
الأطفالُ يجمعون بذور الصَّنوبر
التي لا بدَّ منها لطبق الجالانتين9
كلبٌ حارسٌ ينبحُ مِن وراءِ مُشَرِّبيَّةِ دارةٍ
خاويةٍ على عروشِها
الدَّاراتُ شيَّدَها الآباءُ مِن قبلُ
وأبناءُ اليومِ نبذوها
ثمَّة ههنا متَّسَعٌ لمائة ألفِ منكوبٍ بالزَّلازل
حتَّى أنَّ الشَّاطئ لا يُرى مِن هنا
إذا جازَ أن تُسَمَّى كذلك تلك الثَّمانون بالمِائة
المُعطاة لخفرِ السَّواحل
حيث مِن فَرْطِ الأمورِ التَّطلُّعُ
إلى سلامٍ ذهبيٍّ هناك
البحرُ من جهةٍ أخرى قد كَمُلَ اجتياحُه
فيما النُّفاياتُ تشكِّلُ معاً
رُبْواتٍ مُتماوجةٍ من اللدائن
الحظائرُ مُخلاةٌ عن آخِرِها
سوى مِن سُلالاتِ الصَّدأ العذبة
وطيورِ الصَّعْوِ أو الرُّيَيْتِيَّة10
كما يطيبُ للشُّعراء تسميتُها. ثمَّة أيضاً بِضعةُ
براعمِ ماغنوليا وبطاقةُ طبيبِ أطفال
لكنَّ الأطفال هنا يحلِّقون بدرَّاجاتهم الهوائيَّة
ولا حاجة بهم إلى رعايتِه
مَن يودُّ أن يتنشَّقَ بموجة نَتْنٍ مفاجئة
شِعرَ هذا العصرِ المزعزَع
يمكنه المرور من هنا بلا عجَلٍ
إنَّما الطَّعنةُ الضَّعيفة هي ما يصنعُ الخوفَ
لا الزَّوالُ أو نفثاتُ العدمِ العذبة
فامكثوا هنا إن أحببتم ذلك حُبَّاً وإلَّم يكنْ جمَّاً
ذلك أنَّ الخِيارَ الأفضل شبيهٌ جدَّاً
بالموت (وهذا لا يحبُّه إلا الحِدْثان11).
وجعُ الحياة
لطالما رأيتُ وجعَ الحياةِ قُبُلاً:
[رأيتُه] في الجدولِ المخنوقِ الذي يقرقر،
في تجعُّدِ الورقةِ إذ يبَّسَها
العطش، في الحصانِ المطروحِ أرضاً.
لم أعرف منجىً آخَرَ خارجَ المعجزةِ
التي تُفَتِّحُ الحيادَ الإلهيَّ12:
إنَّه13 النُّصبُ المرفوعُ في وسنِ
الظَّهيرة، إنَّه الغيمةُ، والبازُ المحلِّقُ عالياً.
الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1. اسم علم مذكَّر إيطالي، والشَّخصيَّة تمثِّل الشَّاعر نفسَه في النَّص.
2. يقصد من فعلِ البرق.
3. الشَّاهقة المائية عبارة عن ظاهرة جوِّيَّة على شكل دوَّامة شديدة من الهواء وقطرات الماء، تتشكَّل تحت غيمةٍ ركاميَّةٍ فوق البحار، حيث يُسحَب الماء عالياً.
4. يقصد البحر.
5. غازٌ عديم اللون يستعمَل في الإنارة وغير ذلك.
6. الإسفنط نباتٌ ورقه كورق الزَّعتر، كانت تطيَّب به الخمور ثمَّ أطلِق على الخمر نفسِه.
7. السِّيستروم آلة موسيقيَّة معدنيَّة يعود أصلها إلى مصر القديمة.
8. القصيدة في الأصل مجرَّدة من علامات التَّرقيم.
9. طبق بارد من اللحم والهلام.
10. نسبةً إلى مدينة رْييتي الإيطاليَّة.
11. جمع حدَث، أي شابٌّ.
12. يقصد بالحياد الإلهي هنا الطمأنينة الكاملة التي يتحرَّر عندها الإنسان من مشاعر الفرح والحزن على حدٍّ سواء، ما يجعله شبيهاً بالآلهة.
13. الإشارة هنا إلى المنجى.